الحقيقة أن الحاكم في العصر الحاضر نوعان :
حاكم تحرَّكه الأنظمة وتسَّيره العواطف ، فتأتي به الرغبات إلى منصة
الحكم وتسنده العواطف ، ثم تذهب به الرغبات المعارضة ، وتتخلى عنه
العواطف المتقلبة .
يجيء الحاكم فتنطلق وراءه الأصوات وتهتف له الألسنة وتصفق له الجوارح
، وتمضي فترة لا تكون طويلة في الغالب ، فتتحول عنه الرغبات والعواطف
، إما تدريجياً وإما فجائياً ، وينتهي إلى ما انتهى إليه الإله من
الحلوى ، وتتجه العبادة إلى إله غيره يصنع من نفس المادة وتلتف حوله
الأصوات والأيدي حتى يستمرئ المكان وينوي الإستقرار فتكرر القضية
ويؤكل الأول وينتصب إله جديد يغري على الأكل ، ويستمر الدور والتسلسل
، ولا تقف عملية الدور هذه إلا بشيء واحد هو نزول الوحي من السماء ،
يبعد آلهة الحلوى عن كراسي الحكم ، ويضع منهاجاً يسير فيه الحاكم
الأرضي طبق إرادة الحاكم الأعلى، وينزع من نفوس الجماهير شراهتهم إلى
صناعة حكام من الحلوى ثم التضحية بهم والتهامهم ، وإفهام تلك
الجماهير أنها ليست مطالبه بتقديس مخلوق ولا عبادته ، ولا ملزمة
بالسير في ركابه كيفما سار ، وإنما هم ملزمون بالسير في منهاج واضح
لا يخرجون منه ، وأن في إمكانهم إسقاط الحاكم دون التهامه .
وقد نزل هذا الوحي فعلاً على سيدنا محمد r وسارت به الأمة المسلمة
حيناً فسعدت به وبها البشرية جمعاء ، وتخلى عنه المسلمون فأصبحوا في
الحالة التي وصفناها .
وعندما يعرف الحاكم أنه عبد الله وليس إلهاً ، وإنه يستوي في تلك
العبودية مع أي فرد من أفراد شعبه ، وأنه مخلوق من لحم ودم وليس من
حلوى ، وأنه ينبغي أن يتبع منهجا واضحاً وضعه عالم الغيب والشهادة ،
وأنه ليس مبتدعاً ولا خلاقاً ولا مبتكراً ولا آتياً بالمعجزات ،
وإنما هو منفذ فقط وأن ما ينسبه الناس إليه من ذلك إنما هم يكذبون
فيه ويعرفون من أنفسهم أنهم يكذبون كما يعرف هو نفسه أنهم يكذبون ،
وأنه ليس آلة مسخرة في أدي أية مجموعة من الناس ينفذ رغباتها ،
ويستلهم الرشد والصواب منها ، وإنما يستلهم الرشد الصواب من قانون
الله .
وعندما تعرف الشعوب والجماهير أنها هي نفسها مسؤولة عن السير في
المنهاج الذي وضع لها ومطالبة بالتزامه ، وأنه ليس من حقها أن تضع
مناهج تخالف أو تناقص المنهج الذي وضعه الله لها ، وأن الحاكم يجب أن
يصل إلى مكانه على أيديها طبقاً للمواصفات والشروط التي جعلتها شريعة
الله ، فإذا وصل حسب تلك المواصفات والشروط فإنه ليس من حقها أن تلعب
به أو تتحكم فيه أو تهدده بالموت أو الإقالة – ما دام يسير بحكم الله
– فإذا انحرف طالبته بالتزام الحق ، فإن تمادى على الباطل طالبته
بالتخلي عن مكانه لم هو أصلح منه ، فإن لم يستجب جاز لها حينئذ أن
تعامله الإله المصنوع من الحلوى .
فصول
الكتاب