استطاع مؤتمر الفقه الإسلامي
الذي انعقد في سلطنة عمان(1) ، أن يطفيء أحدث حريق مذهبي شب في المنطقة ، منجزا بذلك عملا توحيديا جليلا ، يرجى له أن يتواصل على مختلف
الجبهات المهددة بالاستغلال.
فقد حدث أن توجه بعض الشباب السعودي إلى الشيخ عبدالعزيز بن باز –رئيس الإفتاء بالمملكة- وسألوه قائلين: وقد علينا بعض أتباع المذهب
الإباضي ، فهل تجوز الصلاة وراءهم؟
رد الشيخ ابن باز بالسلب ، وأفتى بأن الإباضية فرقة ضالة ، ولا تجوز الصلاة وراء أتباعها.
قالها الشيخ في كلمات معدودة ، كان لها وقع الصاعقة على رؤوس تجمعات الإباضية في زماننا ، الذين يتوزعون بين بعض دول شمال إفريقيا
وسلطنة عمان. إذ نكأت الفتوى جراحا قديمة ، وأثارت لغطا عفا عليه الزمن ، وفتحت ملفا حسبنا أنه انغلق.
وإزاء ذلك ، فقد تعين على الإباضية أن يجددوا سعيهم التاريخي ، ويرفعوا أصواتهم التي بحت ، وهم يحاولون إثبات براءتهم من تهمة الغلو
والتكفير ومن وصمة الضلال التي تلاحقهم منذ أكثر من ألف عام. والتي كلما ردوها ، وظنوا أنهم دحضوها ، ظهر بين المسلمين من يعود للترويج
لها ، وتجريح سمعتهم بها ، الأمر الذي يعود بالمشكلة إلى نقطة الصفر.
وحسب الروايات التي تتردد في الكواليس ، فقد سافر مفتي السلطنة –الشيخ أحمد الخليلي- إلى السعودية لتدارك الموقف ، في مهمة يبدو أنها لم
تنجح. وبالمقابل فإن مبعوثا سعوديا رسميا زار السلطنة في محاولة لتطويق المشكلة ، وللإيحاء بأن الخلاف المذهبي ، إن تفجر بين رموزه ،
فينبغي ألا تكون له تأثيرات سلبية على العلاقات السياسية بين البلدين ، وإن رأي بعض أهل المذاهب ليس هو بالضرورة ولا هو دائما رأي
السلطة في المملكة.
في ظل تلك الظروف برزت فكرة الدعوة إلى عقد مؤتمر فقهي في مسقط ، لحسم المشكلة ، وإعلان براءة الإباضية مما ترمى به. وفضل أهل النظر أن
يكون عنوان المؤتمر هو الفقه الإسلامي على إطلاقه ، وأن يكون الفقه الإباضي أحد محاوره الأساسية. بحيث تتم مناقشة الموضوع ، وتعلن
البراءة من جانب فقهاء الأمة ، بصورة طبيعية وغير مباشرة ، فيطفأ الحريق في هدوء ، ويرد الاعتبار ، وتهدأ النفوس الغاضبة والقلوب
الجريحة ، بين عامة الإباضية وخاصتهم.
أكثر الذين دعوا للمشاركة في المؤتمر لم يكونوا على علم بتلك الخلفية ، ولكن قائمة المدعوين كانت توحي بأن هناك نوعا من ( الاستنفار )
الفقهي ، لمواجهة أمر طارئ له أخميته ، فقد كان في المقدمة كل رموز الأزهر ، شيخه ووكيله ورئيس جامعته ، ومفتي مصر ، واثنان من وزراء
الأوقاف السابقين ، غير نفر من أساتذة الشريعة والأصول. من ناحية أخرى ، فقد شارك من السعودية رئيس مجمع الفقه الإسلامي ، ومن الأردن
وزير الأوقاف والشباب ( وله مؤلف عن الإباضية ) إضافة إلى المفتي وعميد كلية الشريعة ، وشيخ فقهاء الشام المعاصرين الشيخ مصطفى الزرقا.
كان من بين المشاركين أيضا مفتي سورية وممثلو كليات الشريعة في مختلف الجامعات الخليجية ، وعدد من فقهاء الإباضية في تونس والجزائر ،
غير فقهاء المذهب في عمان بطبيعة الحال.
ورغم أن البحوث المتعلقة مباشرة بالمذهب الإباضي لم تتجاوز خمسة من بين 14 بحثا عرضت على المؤتمر ، إلا أن محاور البحث الأخرى كانت
متصلة بالموضوع بصورة غير مباشرة ، إذ أنها ركزت على وحدة الأمة الإسلامية ، ومرونة الفقه الإسلامي ، ومجالات الاجتهاد عند فقهاء
المسلمين.
وكأن الرسالة التي أريد لهذه الأبحاث أن تبلغها للكافة هي: أن وحدة الأمة الإسلامية أمر لا ينبغي التفريط فيه ، وأن الإسلام يحتمل كل
اجتهاد لا يخل بأصوله ، فارفعوا أيديكم عن الإباضية ، ودعوا مذاهب المسلمين تتعايش ولا تتنازع.
ورغم أن موضوع المؤتمر هو الفقه الإسلامي ، إلا أن الشعارات التي رفعت والآيات التي قرئت ، واللافتات التي وزعت في العاصمة كانت تركز
على أمر واحد هو: وحدة المسلمين والدعوة إلى نبذ الفرقة بين أهل الملة.
وهذه المعاني ذاتها ، سجلها منظمو المؤتمر ، في الكراس الذي وزع على الجميع ، وتضمن عناوين البحوث وبرنامج العمل ، ففي المقدمة أشير إلى
أن للندوة أهدافا ستة بينها: تعارف علماء المسلمين ، والسعي لتحقيق الوحدة الإسلامية ، والالتقاء تحت مظلة الإسلام التي تحمي سائر
الاجتهادات ، ورأب الصدع ومحاولة القضاء على ما يدعو إلى الفرقة.
ويوم افتتاح المؤتمر –التاسع من أبريل- خرجت صحيفة عمان اليومية الرئيسية بمقال افتتاحي لأحد مشاهير الكتاب العمانيين –حمود بن سالم
السيابي- تحت عنوان ( متى يكون في اختلاف العلماء رحمة ) ؟. وفيه دعا إلى ( ضرورة تنقية الفقه الإسلامي من الشوائب التي افرزتها بعض
التأويلات الخاطئة ) ، وفهم أنه يعني بهذه الإشارة مختلف الاتهامات التي رددتها كتب التراث حول سلامة عقائد الإباضية.
وفي موضع آخر من المقال ، أخذ الكاتب على بعض الفقهاء تورطهم في " التسابق والتنافس لاستعراض مناقب مذاهبهم ، وتكفير مخافيهم ، مهما
كانت شمس الحق هي سيماهم التي على وجوههم " ... ولم يكن هؤلاء الأخيرون سوى أتباع المذهب الإباضي ، الذين لاحقتهم الاتهامات ، وأفتى
الشيخ ابن باز ببطلان الصلاة وراءهم.
وأيـّـاً كان الأسلوب في إخراج الموضوع ، فإن مختلف الشواهد تدل على أن أساس المؤتمر ومرماه هو: تبرئة ساحة الإباضية ورد الاعتبار لهم
وهو هدف مشروع ، وبلوغه مطلوب من قبل كل الداعين إلى وحدة المسلمين ، ولم شمل شراذمهم المبعثرة ، خصوصا في زماننا الذي يخطط فيه لمستقبل
العالم الإسلامي على أساس تفتيته وتقطيع أوصاله ، وتفجير الصراعات المذهبية بين أهله. وما مثل لبنــان منا بعيد!
وحتى لا نظلم الشيخ ابن باز ، فإن الإنصاف يقتضينا أن نقر بأن الرجل لم يبتدع ما قاله ولم يختلقه ، وإنما كان حكمه مستندا إلى ما ذكرته
كتب السلف حسبما ذكرنا(!!) توا. وفي مقدمة تلك الكتب ( مقالات الإسلاميين ) للأشعري ، و ( الفرق بين الفرق ) للبغدادي ، و ( الفصل في
الملل والنحل ) لابن حزم ، و ( الملل والنحل ) للشهرستاني. وكتاب الأشعري صدر في الربع الأول من القرن الرابع الهجري ، أي أن عمره
يتجاوز ألف عام ، وفيه عديد من الإشارات إلى ضلال الإباضية ، وانتسابهم إلى الخوارج واتهامهم لمخالفيهم بالكفر دون الشرك. وعنه نقل أكثر
لاحقيه ممن كتبوا عن الإباضية ، ولم يتح لهم أن يطلعوا على مؤلفات أصحاب المذاهب ، ليتحققوا من مدى صحة تلك " المقالات ".
ومنذ اثني عشر عاما –في سنة 1976- صدر في مصر كتاب لأحد فقهاء الإباضية ، وهو الشيخ علي يحيى معمر – عنوانه ( الإباضية بين الفرق
الإسلامية ) – وفيه جمع كل مقولات السلف والخلف ، وكافة الاتهامات التي وجهت إلى المذهب ودعاته ، وفنــدها جميعـا وهو يتولى الرد عليها.
وقد هدم مقولات الأشعري مثبتا أن فرق الإباضية التي أشار إليها وأسماء الفقهاء الذين ذكرهم ، لا وجود لهم على الإطلاق ، لا في تاريخ
الإباضية أو في مصنفاتهم – وانتهى إلى أن الأشعري " لا يعرف عن الإباضية شيئا ، وإن أكثر ما كتبه لا علاقة لهم به ، ولا علاقة له بهم ".
وذهب المؤلف إلى أن الإباضية ليسوا من الخوارج ، غلاتهم أو معتدليهم ، وكونهم رفضوا أن يظل الحكم حكرا على قريش ، واعتبروا التحكيم بين
على ومعاوية خطأ ما كان له أن يقع ، فإن ذلك لا يصنفهم ضمن الخوارج. فالإباضية –بنص عبارته- لا يريدون أن ينتسبوا إلى الخوارج ، ولا
يحسبون أنفسهم كذلك ، ولا يعتزون بالخارجية ، لسبب بسيط هو: أنهم لا يحكمون على غيرهم من المسلمين بأحكام المشركين ، ولا ينفذون فيهم
تلك الأحكام )-( ص417).
استشهد الشيخ معمر بما كتبه الدكتور مصطفى الشكعة – صاحب كتاب ( إسلام بلا مذاهب ) عندما قال إن الإباضية رموا بتهمة الخوارج لأنهم
رفضوا القرشية ، أي التزام كون الإمام من القرشيين. وأضاف إن التقاءهم مع الخوارج في هذا الموقف ، إضافة إلى تخطئتهم للتحكيم بين علي
ومعاوية ، هو الذي فتح عليهم باب الاتهامات التي لاحقتهم منذ العصر الأموي وحتى العصر الحديث.