الليلة التاسعة
توافد أفراد
الأسرة إلى حجرة الاجتماع بعد صلاة العشاء متتابعين وكانت الأم آخر
الأسرة حضوراً وبين يديها إبريق الشاي .
قالت الأم
: ما رأيكما في الشاي على الطريقة الليبية ؟
قال الأب
: قد يسبب لك تعبا أكثر ونحن نطلب راحتك .
وقال نجيب
: قد يشغلك عن مشاركتنا بآرائك القيمة وأنا في أشد الحاجة إلى
توجيهاتك الرشيدة .
قالت الأم
: أما من جهة التعب فتعبي من أجلكما راحة وأما من حيث الحديث فإنه
يلذ لي أن أسمعكما وإذا خطر لي رأي فإنني أقوله .
التفت نجيب إلى أبيه
وقال : في أسمارنا الماضية ذكرت الناسي وأنت تتحدث عن المنكر
والمستحل والمحرم فهل للناسي حكم خاص به أيا أبي .
قال الأب
: هل اتضح لك الحكم على المنكر والمستحل والمحرم ومعنى ما تدل عليه
هذه الكلمات يا بني ؟
قال نجيب
: إن المنكر حسبما فهمت هو الذي ينكر خيراً أو حكما مقطوعا به عن
طريق الشرع والمستحل هو الذي يحلل ما حرم الله أو يحرم ما حلل الله
دون استناد إلى دليل شرعي والحكم على هذين النوعين هو الشرك فإن
كلا مكذب الله راد لشرعه أما المحرم فهو الذي يرتكب المعصية وهو
يقر أن عمله ذلك حرام وهذا النوع عليه بكفر النعمة أو النفاق كما
سبق أن عرفت .
قال الأب
: أحسنت بقي لي أن أقول لك أن كلمة المستحل قد تمسك بها أو لتقليده
من تمسك بالشبهة .
قالت الأم
: يعني إن من يستحل ما حرم الله من عمل أو ترك لا يخلو أما أن يفعل
ذلك مكابرة وعناداً وأما أن يفعل ذلك استناداً على فهم خاطئ لحجة
من حجج الشرع .
قال الأب
: لقد أحسنت التخليص أيتها الزوجة المسلمة .
قال نجيب
: أمي تحسن الفهم والتعبير دائما يا أبي وقد فهمت الفرق بين
النوعين فما الحكم عليهما .
قال الأب
: أما النوع الأول فيحكم عليه بالشرك كما سبق أما النوع الثاني
فيحكم عليه بالنفاق ، ولكنه يشدد عليه في توبته فيطلب منه أن يذكر
جميع الآثام التي ارتكبها مستحلا لها عندما يتوب ولا يجزيه أن يتوب
توبة إجمالية من ذنوبه وذلك لأنه ارتكب الذنب وأخطأ في الفهم
والتأويل وحكم بالخطأ على مخالفه وهو مصيب .
قال نجيب
: إن هذا واضح جداً يا أبي .
قالت الأم
: وهي تمد إلى كل واحد منهما كوباً صغيراً من الشاي ، بقي أن
تتحدثا في النسيان .
قال الأب
: لقد شدد العلماء في الناسي تشديداً كبيراً .
قال نجيب
: لقد كنت اعتقد أن النسيان من طبائع البشر وأنه لا يوجد شخص لا
ينسى ، فهل يكون النسيان معصية ؟
قال الأب
: إن ما رأيته صحيح إلى حد ما يا ولدي فإن النسيان من طبع البشر
غير أن النسيان قد يترتب على الإهمال وعدم العناية .
قال نجيب
: وكيف ذلك يا أبي ؟
قال الأب
: ألم تحفظ محفوظات في سنوات دراستك الأولى .
قال نجيب
: لقد حفظت في كل سنة جميع المحفوظات التي حفظتها المقررة في
المنهج الدراسي .
قال الأب
: هل بقيت في ذاكراتك جميع المحفوظات التي حفظتها في السنوات
الدراسية المختلفة ولم تنس منها شيئا .
قال نجيب
: بل إن كثيرا من المحفوظات التي حفظتها في السنوات الأولى من
دراستي قد نسيتها أو نسيت بعضها .
قال الأب
: هل تعرف لماذا نسيت تلك المحفوظات .
قال نجيب بعد تفكير
وتأمل : ربما لأنني لم
أراجعها بعد ذلك .
قال الأب
: ألا ترى إن عدم مراجعتك لها يعني الإهمال لها والتهاون بها .
قال نجيب
: قد يكون ذلك بسبب الإهمال .
قال الأب
: فهذا نسيان بسبب التهاون والإهمال .
قال نجيب في خوف
وإشفاق : فهل يعتبر ذلك
مني معصية ؟
قال الأب
: هذا يرجع إلى نوع العلم أو العمل الذي وقع عليه النسيان .
قال نجيب
: وكيف ذلك يا أبي ؟
قال الأب
: انك تحفظ أجزاء من القرآن الكريم .
قال نجيب
: نعم إني احفظ ثمانية أجزاء من القرآن الكريم واحفظ عدداً من
الآيات الكريمة من سور مختلفة .
قال الأب
: إن القرآن الكريم كتاب الله الذي يجب على المسلم أن يدرسه وان
يتقرب إلى الله تعالى بتلاوته وان يتفهم معانيه ويتدبر معانيه
مستعيناً بكتب التفسير واللغة .
قال نجيب
: هذا صحيح يا أبي .
قال الأب
: هب أن شخصاً بعد أن حفظ ما تيسر من كتاب الله أهمله فلم يدرسه
ولم يعتد تلاوته ، ولم يتفكر في معانيه والأحكام المستقاة منه حتى
مر عليه وقت طويل ، فلما أراد أن يرجع إليه وجد نفسه قد نسيه أو
نسي بعضه ، ألا يكون هذا النسيان تهاوناً بكتاب الله وإعراضا عنه
وإهمالاً له ؟
قال نجيب
: إنه كذلك .
قال الأب
: أترى إن التهاون بكتاب الله والإعراض عنه ونسيانه شيء يسير من
طبع البشر .
قال نجيب
: معاذ الله أن أرى ذلك أن هذا إثم عظيم .
قالت الأم
: قال رسول الله r (( نظرت في ذنوب أمتي
فلم أر ذنبا أعظم من ناسي القرآن )) (1).
قال نجيب
: صدق رسول الله r .
قال الأب
: إن العلماء وهم يتكلمون عن النسيان يشيرون إلى الإهمال والإعراض
والتهاون حتى يصبح الشيء الذي عرفه الشخص معرفة كاملة أو حفظه
صحيحاً تاماً كأنه لم يعرفه ولم يحفظه ولإيضاح هذا المعنى سموه
بالرجوع عن العلم فقالوا الناسي راجع عن علمه .
قال نجيب
: كنت أعتقد إن النسيان أمر بسيط لا يؤاخذ الله عليه .
قال الأب
: هناك فرق بين نسيان يترتب عن إهمال وإعراض حتى يصبح في درجة
الجهل ، ونسيان عارض يذهل فيه الإنسان عن شيء حتى يذكره أحد فيتذكر
.
قالت الأم
: مثل ما وقع لرسول الله فقد صلى بأصحابه في صلاة رباعية ركعتين
فذكره ذو اليدين (1)فأتم بهم ركعتين .
قال الأب
: هذا النوع من النسيان الذي يأتي عن ذهل لا يخلو منه إنسان وفيه
قال . (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه ))(2) .
قال نجيب
: أنه فارق دقيق ولكنه حق .
قال الأب
: وهل تجد في أحكام الإسلام باطلاً ؟
قال نجيب
: معاذ الله يا أبي إن الدين يختاره العليم الحكيم ليكون دين البشر
جميعا ويختم به جميع الأديان لا يكون به باطل ولا نقصان فإن الباطل
والنقصان لا يلحقان إلا أعمال المخلوق .
قالت الأم
: إن تفسير النسيان والإهمال والإعراض هو ما يفهم من كثير من آيات
القرآن الكريم .
قال نجيب
: هل تذكرين لي أمثلة على ذلك يا أماه .
قالت الأم
: قال تعالى [ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
فَالْيَوْمَ نَنسَاـهُمْ كَمَا نَسُـوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَـذَا
وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ]
(1).
[
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ
بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]
(2).
[
وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُـوا اللهَ
فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ]
(3).
[
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى
وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ]
(4)، فإن النسيان في هذه الآيات وأمثالها يد على الإهمال
والإعراض لا على الذهول والغفلة .
قال نجيب
: لا سيما قوله تعالى : [
فَنَسِيَهُمْ –
وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ] فإنه لا يمكن
تفسيره إلا بإهماله تعالى لهم وعدم نظره تعالى إليهم برحمته لأنهم
أعرضوا عنه ، وأهملوا آياته فلم يعملوا بها وكذبوا بلقائه فجازاهم
عن إعراضهم عن دينه بالإعراض عنهم والاستهانة بدعائهم وهم في النار
كالحون .
قال الأب
: أصبت يا ولدي وعلى هذا فالنسيان الذي جاء فيه الوعيد يكون في
نسيان القرآن الكريم لأننا متعبدون بتلاوته وحفظه والعمل بما جاء
فيه ، وفي نسيان العلم الواجب بالإهمال الذي يؤدي إلى الجهل وهذا
ما يعبر عنه بالرجوع عن العلم وفي نسيان العمل بإهمال ما يجب وعدم
القيام به .
قال نجيب
: لم أكن أعتقد أن النسيان تترتب عليه كل هذه الأحكام ويصل
بالإنسان إلى هذه النتائج الخطيرة .
قال الأب
: لقد وضحت لك إن كلمة النسيان تشتمل على معنيين : أحدهما الذهول
والغفلة وقد وردت كلمة النسيان بهذا المعنى في القرآن الكريم كما
في قوله تعالى : [ فَلَمَّا بَلَغَا
مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ]
(1).
[
وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ
] (2) [
قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ
تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ] (3)]
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن
نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ] (4).
في آيات كثيرة بهذا
والنسيان بهذا المعنى لا إثم فيه ولا مؤاخذة عليه لأنه النسيان
الذي نقول عنه إنه من طبع البشر والذي لا يخلو منه إنسان وهو لم
ينتج عن الإهمال والأعراض والاستهانة .
قال نجيب
: إن هذا واضح يا أبي ولكن هل كل النسيان الذي يترتب عن الإهمال
يكون معصية ؟
قال الأب
: إن الإهمال يا بني صفة مذمومة ولكنه لا يبلغ أن يكون معصية إلا
عندما يكون نسيان علم أو عمل واجب وأعتقد أن هذا واضح من أحاديثنا
السابقة .
قالت الأم
: لقد شدد أصحابنا في الناسي لقوة الوعيد فيه وحكموا بشرك من نسي
نبياً أو ملكا أو رسولاً أو مفروضة منصوصة أو قضية من كتاب الله
مخصوصة وكل ما لا يسع جهله ، وشددوا فيمن نسي وليا أو تباعة من
الأموال والأنفس ولم يعذروه ، وقالوا هو راجع عن علمه ، وقالوا إن
النسيان إما أن يكون ذهلا أو جهلاً ، أما الذهل فلا بأس به وأما
الجهل فهو إلى الجحود أقرب .
قال نجيب : تقصدين بالجهل النسيان الذي
يترتب عن الإهمال حتى أصبح صاحبه لا يعرف ما نسيه .
قالت الأم
: نعم فإن نسيان الإنسان لشيء حتى أصبح كأنه لم يعرفه جهل عظيم بعد
علم وهذا هو المحذور .
قال نجيب
: لقد فهمت الحكم على النسيان الذي يعود إلى الجهل فما الحكم على
الجهل .
قال الأب
: الجهل صفة مذمومة يجب على المسلم أن يتخلص منها وقد شدد العلماء
في الجاهل كما شددوا في الناسي .
قال نجيب
: وكيف ذلك يا أبي ؟
قال الأب
: يقول العلماء إن جميع ما يتعلق بالدين ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : مالا
يسع جهله طرفه عين .
القسم الثاني : ما
يسع جهله .
ثم يقسمون القسم
الثاني إلى قسمين :
الأول : مضيق
في معرفته .
الثاني
: موسع في معرفته .
قال نجيب
: هذا فيما يبدو بحث شيق جديد .
قال الأب
: إنه ليس جديداً بما تعنيه هذه الكلمة فقد سبق فيه نقاش ولكننا
نتناوله من زاوية أخرى .
قال نجيب
: حسـنا يا أبي فما هي الأشـياء التي لا يسع جهلها طرفة عين(1)
؟
قال نجيب
: هل هذا فقط ما يجب معرفته والإيمان به مما لا يسع جهله طرفه عين
.
قال الأب
: لا يسع جهل الجملة التي يدعو إليها رسول الله متى قامت بذلك
الحجة .
قالت الأم
: يقول فيلسوف الإسلام العلامة أبو طاهر الجيطالي : (( أعلم أن
العلم المفترض تعلمه على ثلاثة أوجه :
وجه لا يسع الناس
جهله طرفه عين ، ووجه يسع جهله إلى الورود ، ووجه يسع جهله أبداً .
فالوجه الأول في
معرفة ما لا يسع جهله طرفة عين وذلك ما قدمناه من معرفة الله ونفي
الأشياء والأمثال عنه .
وأما ما يسع جهله
إلى الورود فهي على وجهين : أحدهما ما لا يسع جهله وترك علمه إذا
ورد وذلك كمعرفة الله إنه بصير عليم سميع في أمثاله من الأسماء
والصفات إذا ورد عليه شيء من صفات الله تعالى أو سئل عنها أو خطرت
على باله من غير أن يوردها عليه أحد فلا يسعه إلا أن يصف الله
بصفته وينفي عنه صفات خلقه ، وهذا إذا فهم ذلك بلغته أو قامت عليه
الحجة أن هذا اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته فعلية أن
يعلم الحق في ذلك ويصف الله بصفاته وإن لم يفعل فقد نقض جملة
التوحيد التي أقر بها أولاً .
والوجه الآخر : يسع
جهله حتى تقوم عليه الحجة ، وذلك كمعرفة نبي من الأنبياء أو ملك من
الملائكة أو حرف من كتاب الله تعالى فإذا قامت عليه الحجة بشيء فشك
فيه أو أنكره فقد نقض الجملة التي أقر بها أولاً ، وأشرك بالله
تعالى ، وعلى السامع أن يبرأ منه إذا قصد إلى ذلك فأنكره .
والوجه الثاني من
علوم الدين يسع جهله حتى يأتي وقته وذلك كالفرائض الموسمات(1)
الأوقات من الصلاة والصوم والزكاة والحج وسائرها من جميع الفرائض
البدنية والمالية ، يسع جهل جميع ما ذكرناه ما لم يبتل العبد
بالعمل فحينئذ يلزم العمل بها وامتثالها والله أعلم .
والوجه الثاني يسع
جهله أبداً مثل قسمة المواريث ، وتصريف القصاص في وجوهه وتحريم
الربا في معانيه وتحريم الميتة والدم والخنزير وأشباه ذلك من جميع
المحرمات وذوات المحارم من النساء من جهة النسب والرضاع وغير ذلك
من جميع المعاصي ما خلا الشرك فإنه لا يسع جهله ، وأما غيره من
المعاصي وجميع فإنه يسع جهله ما لم يقارف شيئا من ذلك ، وأما ما لا
يسعهم في هذا الوجه فهو أحد ثلاثة أشباه : أن لا يتقولوا فيه على
الله الكذب ، فيحلوا ما حرم الله منها أو يحرموا ما أحل الله من
ذلك ، أو يخطئوا في حكم من أحكامه بالقول ، والثاني أن لا يفارقوا
ما حرم الله تعالى من ذلك بالفعل ، والثالث أن تقوم عليهم الحجة
بتحريم شيء من ذلك أو تحليله فيردوها ، فمهما فعلوا شيئا مما ذكرنا
منهـم غير معذورين والله أعلم(2) .
قال نجيب
: هذا عرض رائع يا أماه للموضوع فهل هو من تعبيرك أنت أم أنك حفظته
عن ظهر قلب من كتب أبي طاهر .
قالت الأم
: بل هو من تعبير فيلسوف الإسلام أبي طاهر إسماعيل ابن موسى
الجيطالي في كتابه (( قواعد الإسلام )) .
قال نجيب
: معر العرض الواضح الذي عرضت به الموضوع يا أماه فإنني لا زلت
أريد زيادة إيضاح لبعض النقط .
قالت الأم
: إن أباك على استعداد دائما لما تريده يا ولدي .
قال نجيب
: لقد خطر لي وأنت تشرحين موضوع ما يسع جهله إلى الورود إن هنالك
فرقا بين ما يتعلق بصفات البارئ عز وجل وبين غيره من معرفة
الأنبياء والرسل وما إليه غير أن هذا الفرق لم يتضح لي تمام
الاتضاح .
قال الأب
: إذا ورد على المؤمن شيء يتعلق بصفات الله عز وجل أو بأسمائه سواء
أكان ذلك عن طريق السماع أو طريق السؤال أو عن طريق الخاطر الشخصي
الذي يخطر ببال الإنسان فإنه يجب عليه حالا أن يصل إلى الحق في ذلك
ويصف الله تبارك وتعالى بما يليق به ، ولا يعذر في التأخير أو
الخطأ ، بل أنه لا يشتغل بغير ذلك حتى ينتهي إلى الحق الذي يدين به
ولو كان في صلاة ، ذلك أنه يستطيع أن يصل إلى الحق بالتفكير العقلي
.
قال نجيب
: هل تذكر لذلك أمثلة يا أبي ؟
قال الأب
: قد تكون في حجر منفرداً ليس معك أحد فتظن أنه ليس هناك من يرى ما
تعمل أو يسمع ما تقول أو يعرف ما تقوم به .
قال نجيب
: هذا يحدث كثيراً فقد أكون منفرداً لا أحد يسمع ما أقول ولا يعرف
أو يرى ما أصنع .
قال الأب
: ألم يحدث مرة من المرات انك كنت على حالة الإفراد وكنت تقوم بعمل
أو قول تكره أن يعرفه الناس عنك ولكنك في ذلك الحين تذكرت الله ؟
قال نجيب
: لقد كان ذلك يا أبي .
قال الأب
: فها أنت ترى انه قد خطر لك وأنت منفرد إن الله يسمع ما تقول
ويبصر ما تصنع ويعلم ما تقول به من أعمال .
قال نجيب
: نعم .
قال الأب : انه يجب
عليك حين خطر لك هذا إن لا تنتقل عن الموضوع حتى تعرف الحق من هذه
الصفات وتصف بها البارئ سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وتؤمن أنه
سميع بصير عليم وان سمعه وبصره وعلمه لا يشبه سمع ولا بصر ولا علم
المخلوقات ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
قال نجيب
: يعني أن يعتمد الإنسان على العقل في مثل هذه المواضيع حتى ولو لم
تقم عليه الحجة بطريق السمع .
قال الأب
: إن الحجة قامت عليه حين أثير الموضوع الذي يتعلق بصفة من صفات
الله أو باسم من أسمائه ، سواء أثير هذا الموضوع عن طريق السمع أو
عن طريق الفكر ولا يحق للمؤمن بعد قيام هذه الحجة أن يبقى جاهلاً
بتوحيد الله في صفاته أو أسمائه أو أفعاله .
قال نجيب
: لقد فهمت هذا جيداً يا أبي .
قال الأب
: بقية ما يسع جهله إلى حين الورود لا تقوم فيها الحجة إلا بالسماع
وحين يرد الخبر على المكلف وتقوم عليه الحجة فعليه أن يعمل وأن يجد
في الطلب حتى يتحصل على العلم المطلوب .
قال نجيب
: لا يزال في هذه النقطة غموض لم ينكشف لي يا أبي .
قال الأب
: قد يسمع المكلف باسم نبي أو ملك أو فريضة من الفرائض لم يسبق له
العلم بها فماذا ترى يجب عليه في هذا الخبر الجديد ؟
قال نجيب
: بعد تفكير طويل : يصدق به .
قال الأب
: إذا كان المصدر الذي استقى منه الخبر يوجب التصديق وجب عليه ذلك
، ولكن المصدر قد يوجب التصديق وبناء على ذلك فيجب عليه أن يبحث
حتى يتحقق ويعلم عن طريق السماع لأن العقل في هذه المواضيع لا
يستطيع معرفة الحقيقة .
قال نجيب
: يعني إن ما يسع جهله إلى حين الورود ينقسم إلى قسمين : ما يتعلق
بالله سبحانه وتعالى وهذا القسم يجب أن ينتهي فيه المكلف إلى الحق
حين وروده مهما كان طريق الورود .
أما القسم الثاني
وهو ما بغير الله من مواضيع التوحيد فإن هذا القسم يجب البحث فيه
للوصول إلى العلم على أن لا يؤدي ذلك البحث إلى تضيع أو نقض ما
تشتمل عليه كلمة الشهادة التي أقر بها المكلف من قبل .
قالت الأم
: لقد ترددت كلمة الحجة بالسماع فما معنى ذلك ؟
قال الأب
: إن الحجة السمعية إنما تكون عن طريق كتاب الله عز وجل أو عن سنة
رسول الله أو عن إجماع المسلمين ويزيد بعضهم الرأي أو القياس ولكن
هذا الأخير لا يكون حجة سمعية منفردة لأنه ينبني على بعض المصادر
السابقة .
قال نجيب
: هل يمكن أن نعود إلى مناقشة بعض النقط السابقة في أول هذا السمر
.
قال الأب
: لا مانع من ذلك يا بني .
قال نجيب
: لقد قلت يا أبي ما يسـع جهله من أحكام الدين ينقسم قسمين :
مضيق وموسع
.
قال الأب
: هذا صحيح يا ولدي .
قال نجيب
: ما معنى مضيق ؟
قال الأب
: إن مسائل التوحيد التي تجيب بقيام الحجة تدخل في هذا الباب وكذلك
الفرائض التي خصصت لها أوقات يكون العلم بها وبكيفيتها مضيفا عند
حلول تلك الأوقات .
قال نجيب
: أود أن تزيدني إيضاحا وتضرب لي أمثلة يا أبي .
قال الأب
: إن جميع ما يتعلق بالدين إما أن يكون عقائد في القلب أو أقوالا
باللسان ، أو عملاً بالجوارح ، أو اجتناباً .
قال نجيب
: اعتقد أنه ليس هنالك وجه آخر .
قال الأب
: أما فيما يتعلق بالعقائد فإن الحكم فيها دائما مضيق بعد قيام
الحجة وكذلك القول .
قال نجيب
: يعني الإيمان بجملة التوحيد وما اشتملت عليه والإقرار بذلك .
قال الأب
: هو ذلك .
قال نجيب : فما هي
الأعمال ؟
قال الأب
: إن الله قد فرض على العبد فرائض وخصص لها أوقاتا .
قال نجيب
: تعني مثل الصلاة والصوم والزكاة .
قال الأب
: نعم فنحن مثلا في وسط الليل ولا تجب علينا الآن صلاة ولا العلم
بها وبكيفيتها حتى يصل الفجر وعند حلول الفجر يصبح العلم ولا العلم
بها مضيقاً علينا فيجب علينا أن نتعلم أن الله فرض علينا نوعاً من
الصلاة ويجب أن نعرف كيفية أدائها وإن الله يثيب على فعلها ويعاقب
على تركها .
قال نجيب : هذا واضح ولكن زد لي أمثلة .
قال الأب
: إن الفقير الذي لا يملك شيئا ليس عليه أن يعرف الزكاة وأحكامها
ولكنه عندما يملك النصاب ويحول عليه الحول فإنه يصبح الحكم عليه
مضيفاً يعني أنه يجب عليه أن يعرف أحكام الزكاة ليؤديها .
قال نجيب
: يعني إن الفرائض التي خصصت لها أوقات يسع جهلها قبل حلول أوقاتها
فإذا حلت أوقاتها أصبح العلم بها مضيقاً أي أن يعرفها المكلف ليقوم
بأدائها .
قال الأب
: هو ذلك يا بني .
قال الأب
: إن الله قد حرم أشياء وأمر بتركها سواء كانت قولاً أو فعلا وهذه
الأشياء لا يجب على المكلف العالم بها إلا عند الابتلاء .
قالت الأم
: ما عدا معرفة الشرك فإن من لم يعرف ما يؤدي إلى الشرك لا يعرف
التوحيد .
قال الأب
: صدقت أمك يا نجيب .
قال نجيب
: قلت عند الابتلاء فما معنى الابتلاء يا أبي ؟
قال الأب
: هب انك دخلت مقهى فوجدت قوما يشربون شرابا لا تعرفه ولا تعرف
الحكم عليه فعرض عليك أحدهم أن تشرب معهم فما هو موقفك منهم ؟
قال نجيب
: إن كانوا من معارفي وأصدقائي أشاركهم وإلا فإني اعتذر .
قال الأب
: فهذا معنى الابتلاء انك كنت غير مطالب بمعرفة هذا الشراب والحكم
فيه ولكنه لما عرض عليك وجب أن تعرفه وتعرف الحكم فيه لئلا ترتكب
معصية بشراب محرم فإن كان هؤلاء الناس الذين عرضوا عليك مشاركتهم
عدولاً ثقاة وأعلموك عن الشراب وأنه طيب حلال فإنه يجوز لك أن
تشاركهم وإذا أخبروك أنه من النوع المحرم وجب عليك الابتعاد عنه
وإذا كان القوم في ولايتك ومن أهل الوفاء عندك ووجدتهم يشربون
فاعتمدت على ذلك وشربت معهم فلا إثم عليك .
قالت الأم : أما إذا لم يكونوا من أهل
الولاية أو ليسوا معروفين عندك فإنه لا يحق لك أن تشاركهم الشراب
حتى تعرفه وتعرف الحكم فيه .
قال الأب
: صدقت أمك يا نجيب وهذا الحكم يجري عليك في جميع الأشياء .
قال نجيب
: لقد فهمت هذا أيضا فهماً جيداً والحمد الله .
قال الأب
: ومن هذا المثال تعرف أنه لا يجب عليك شيء في معرفة المحرمات إلا
إذا هيئت لك ظروف مقارفتها بالقول أو بالعمل .
قال نجيب
: ما معنى المقارفة يا أبي ؟
قال الأب
: مقارفتها أي إتيانها أو تولي من يأتيها .
قالت الأم
: لقد أحلت سمرنا إلى دروس في الفقه يا أبا نجيب .
قال الأب
: إنني أريد أن أضع صوراً واضحة من الإسلام أمام أنظار نجيب .
قال نجيب
: إن أثر هذه الدروس في نفسي أعظم من جميع الدروس التي تلقيتها في
المدرسة ، أرجو الله تعالى أو يوفقني إلى ما يحبه ويرضاه ويقويني
على أداء حقكما ، فقال الأبوان في صوت واحد : آمين .
قام نجيب فألقى تحية
المساء على أبوبه وانصرف وهو يدير في ذهنه بعض الأحاديث السابقة
.