مقـالات

بحـوث ودراسات

عـلماء كـتب ومخطوطات 

عقـيدة و فـقـه

تاريخ وحـضارة

الصفحة الرئيسة

فصول كتاب سمر أسرة مسلمة  

 

الليلـة الأولـى

اجتمعت الأسرة المتكونة من نجيب وأبوبه ، بعد العشاء على إبريق من الشاي موضوع فوق الموقد ، وكانت الأم تنظر إلى ولدها في فخار واعتداد ، وكان الولد ينتظر ما تنفرج (1)عنه شفـتا أبيه في ترقب ولهفة – أما الأب فقد كان صامتاً يفكر في وقار – ثم اتجه إلى ولده وقال في حنان بالغ :

نجيب ! ..

وكان الولد ينتظر هذه اللحظة في شوق ، فأجاب في أدب جم :

نعم يا أبي ! ..

قال الولد : قم يا ولدي إلى الحمام ، فأزل من بدنك كل نجاسة ، وتوضأ كما تتوضأ للصلاة ، ثم أفض الماء (2)على رأسك ثلاث مرات مبتدئاً من مقدمه ثم أفض الماء على جميع جسدك مقدماً الأعضاء العليا على السفلى واليمنى على اليسرى حتى تنتهي من قدميك وأنت في كل ذلك تدلك (3)ما يقع عليه الماء دلكا جيداً متواصلا لا تقطع بينه فإذا اغتسلت فالبس ثيابا طاهرة ، إما جديدة وأما غسيلة لم تلبس بعد ، وأقبل علينا فنحن في انتظارك …

ولبث الولد ينظر إلى أبيه في حيرة وارتباك ، ما معنى كل هذا ، وهل يجد أبوه أم يمزح ؟ إنه لم يعتد أن يستحم في مثل هذا الوقت ، ثم إن أمه هي التي كانت تهتم بنظافته واستحمامه ، إن أباه لم يتول منه هذه الشؤون إلا مرة واحدة ، وذلك قبل أربع سنوات ، حين ناوله إبريقا من الماء وعلمه طريقة الاستنجاء والوضوء ثم دربه على الصلاة ، وبقي يراقبه فيها ثلاثة أيام متواليات .. ومنذ ذلك الحين لم يهتم بشؤون طهارته ولباسه . ولما وجد نجيب أن أباه بقي ينتظر منه إجابة الطلب ، قام متثاقلاً إلى تنفيذ هذه الرغبة الأبوية ، وهو يرى في سلوك أبيه اليوم شذوذاً لم يجد له تفسيرا .

استحم نجيب بالطريقة التي علمها له أبوه ، ولبس ثيابا نظيفة ، وأقبل على أبويه فوجدهما في انتظاره يتحدثان ، وعندما أخذ مجلسه منهما قال له أبوه :

سألتني يا نجيب صباح اليوم إن كنت أذكر عيد ميلادك ؟

قال نجيب وهو ينظر إلى أبية في حيرة نعم يا أبي .

قال الأب : لقد ولدت يا نجيب منذ أربعة عشر عاما وقد انتهى عمرك اليوم كصبي ، وسيبتدئ عمرك السعيد كرجل .. إن هذه الليلة هي أول أعياد ميلادك كرجل ..

وصمت الأب ليرى وقع كلماته على الولد المرتبك الحيران ..

وتتابعت الانفعالات على الطفل في سرعة ، وانقشعت(1) عن نفسه تلك الشكوك والريب التي كانت تسيطر عليه منذ الصباح ، وأدرك مغزى هذا السلوك من أبيه ، فاستعد من جديد ليتلقى أنباء جديدة من هذا الوالد الكبير الحكيم ، ثم اتجه إليه في رغبة وشوق ليسمع المزيد ..

قال الولد لابنه : كنت تقيم الحفلات لزملائك في أعياد ميلادك يا بني حينما كان أولئك الأطفال زملاء لك ، أما اليوم فقد أمسيت ولست بزميل لهم ، انهم لا يزالون أطفالا ، أما أنت فقد صرت رجلاً ، وقد كنت آتيتك بهدايا في أعياد ميلادك كل سنة لأنك كنت طفلا ، أما في هذه الليلة فلم تعد طفلاً ، انك رجل مثلي ومثل غيرنا من الرجال .

قال الولد : ولكن يا أبي ! أيصير الطفل رجـلا هكذا فجأة في لحظة واحدة ؟ ..

قال الأب : إن الطفل لا يزال ينمو .. ينمو عقله ، وينمو جسمه ، حتى تظهر عليه علامة من علامـات الرجولة ، فيعتبر رجلا ، وتلقى عليه أعبـاء الرجال ..

قال الولد : وهل ظهرت علي تلك العلامات يا أبي ؟ ..

قال الأب : لقد اتضحت فيك بعض تلك العلامات يا ولدي ..

قال الولد : يسرني أن أعرفها إذا كانت مما يعرف ..

قال الأب : من واجب الآباء أن يتعهدوا (1)أبناءهم بالتربية والرعاية ، ومنذ تجاوزك العاشرة ، وأنا أتبعك بالملاحظة ، وأوصي أمك بمراقبتك ومعرفة أحوالك ، حتى لا تدخل سن الرجولة ونحن غير عالمين .

قال الولد : إنني لم أشعر بذلك منكما ..

قال الأب : ألا تذكر أنني لا مست أرنبة أنفك بسبابتي عدة مرات ؟

قال نجيب : أذكر ذلك ولكنني كنت أحسبك تداعبني بذلك ..

قال الأب : كنت أداعبك بذلك وفي نفس الوقت كنت أبحث عن إحدى علامات الرجولة أو علامات البلوغ كما تسمى في كتب الفقه ..

قال الولد : وهل تكون علامات الرجولة في أنف الإنسان .

قال الأب : إن الطفل عندما يدخل مرحلة الرجولة يفترق رأس أنفه فإذا وضعت إصبعك عليه أحسست بهذا الفرق أما الطفل فإن أرنبة أنفه لا تفترق ولذلك فعندما تلامسه لا تحس بذلك الفرق .

ورفع نجيب إصبعه يتحسس أرنبة أنفه ، وقرر أن يتأكد من صحة رأي أبية بأنوف زملائه في المدرسة ، وان يخبرهم بهذه المعلومات الجديدة ، ويتحسس أنوف الكبار والصغار منهم ، ثم اتجه إلى أبيه وهز رأسه كأنه يقول إنه متأكد من ذلك مقتنع به .

ولما أتم الولد تجربته الشخصية هذه استأنف الوالد حديثه فقال :

ليست هذه هي العلامة الوحيدة للانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة .

قال الولد : وما هي العلامات الأخرى يا أبي ؟ ..

قال الأب : إن الطفل عندما يدخل مرحلة الرجولة ، يغلظ صوته ، وينبت الشعر في مغابن (1)جسده ، وقد يحلم بالأعمال الجنسية فيندفق منه ماء ثخين(2) ذو رائحة ، وقد كنت أوصيت أمك أن تلاحظ ظهور هذه العلامات عليك ، فهي بحكم مراقبتها لنظافتك ، وتوليها تنظيف ثياب نومك ترى آثار هذه العلامات عليك أكثر مما يمكن أن أفطن أنا لها ..

قال نجيب : هل هذه كل العلامات التي تفرق بين الطفولة والرجولة ؟ قال الأب : قد تتأخر هذه العلامات عن مواعيدها وكثيراً ما تتأخر ..

قال نجيب : إذا تأخرت هذه العلامات عن موعدها فكيف يعرف الإنسان أنه أصبح رجلا ؟

قال الأب : إذا تأخرت هذه العلامات عن موعدها تأتي العلامة التي لا يمكن أن تتأخر لحظة واحدة .

قال نجيب : وما هي يا أبي ؟

قال الأب : الدخول في السنة الخامسة عشر من العمر .

قال نجيب : وبهذه العلامة الأخيرة التي لا تتأخر أمسيت اليوم رجلا ، وضحكت الأسرة .

وأخذت الأم إبريق الشاي فأفرغت منه لزوجها ولولدها ولنفسها ثم أزاحت عنها الموقد وجلست في مكانها ليستمر سمر العائلة المسلمة …

شعر نجيب أنه أصبح رجلا بعد حديث أبيه ، فاتخذ لنفسه سمت(1) الرجل الوقور ، ثم اتجه إلى أمه التي تنظر إليه في حب وفخار وقال :

لقد حدثني أبي يا أماه منذ هنيهة ، وأوضح لي العلامات الفارقة بين الطفولة والرجولة ، فما هو حديثك إلي لو كنت بنتا ؟

تبسم الوالد من سؤال ولده الطريف ، وتنهدت الأم في حسرة وألم تظهر ما في نفسها من مرارة لحرمانها من بنت جميلة تؤنس وحدتها وتسـاعدها في عملها ، وترث عنها خلقها وجمالها ، ثم اعتدلت في جلستها وقالت :

إننا نساعد الرجال في جميع الأعباء التي يتحملونها ، وقد نحملها عنهم ، ولكنهم لا يخففون عنا من أعبائنا شيئاً .

قال نجيب : وكيف ذلك يا أماه ؟

قالت الأم : لقد اعترف أبوك في حديثه السابق إليك بأنه يكل إلي جانبا عظيما من ملاحظتك والعناية بك .

قال نجيب : وهو ينظر إلى أبيه نظرة ذات معـزى – ذلك ما صرح به أبي .

قالت الأم : أنا على يقين – لو أني رزقت بنتاً – أن أباك لن يهتم مطلقا بملاحظة نموها وانتقالها في مراحل العمر ، كما كنت ألاحظك أنا .. ووجد الأب نفسه مضطراً إلى الدفاع عن نفسه فقال :

إن لكل واحد من الأبوين مهام يجب أن يقوم بها حسبما هيأته حكمة الخالق ، وواجبات الأسرة ، ولم تعن الأم بالرد على زوجها ، واسترسلت في حديثها قائلة : ولذلك فعندما تتجاوز بنتي سنتها العاشرة أتجه إليها بالملاحظة والمراقبة ، حتى أعرف مرحلة انتقالها من مرحلة الطفولة إلى المرحلة التي تصبح فيها امرأة تتعلق بها الحقوق والواجبات .

قال نجيب : وهل تكون للبنت علامات عندما تنتقل في مراحل العمر ؟

قالت الأم : نعم يا ولدي ! ينبت الشعر في مغابن جسدها ، ويتكعب ثدياها(1) وينزل منها دم يسمى دم الحيض ، وإذا تأخرت هذه العلامات فإن الدخول في السنة الخامسة عشر هي الحد النهائي الذي تصبح البنت بعده امرأة بالغة لها كل الحقوق وعليها جميع الواجبات .. وصمتت الأم كأنما رجعت بها الذكرى إلى حرمانها من فتاة ، فتحركت أشجانها(2) وسبحت نظراتها رواء بعيد مجهول ..

واحترم نجيب هذا الصمت من أمه وعاد إلى أبيه يناقشه الحديث فقال : لقد أمرتني يا أبي منذ قليل بالاستحمام ولم أرك قبل تكلفني بمثل هذا ، ولا تهتم بنظافتي ، فهل لذلك من سبب ؟

قال الأب : إن هذا الاستحمام هو الفاصل بين حياتك طفلاً وحياتك رجلاً ، والاستحمام حين يقع على هذه الطريقة يسمى غسلاً أو اغتسالا .

ولما كنت ولدا مسلما ربيت في بيت مسلم بين أبوين مسلمين ، وكنت قد اقتبست من دينهما وأخلاقهما شيئا كثيراً ، رجوت أن تكون رجلاً مسلماً ، والإسلام دين لا يكلف الأطفال بالواجبات وإن كان يثيبهم على ما يقومون به من أعمال الخير ، ولكنه يطالب الرجال بالعمل منذ اللحظة الأولى .

ولما كنت أرجو أن تختار الإسلام دينا لك بعد أن أصبحت رجلاً وهو دين حريص جداً على الطهارة ، فقد أحببت أن تدخله طاهراً ، والطريقة التي أوضحتها لك هي طريقة التطهير في الإسلام ولا ينقص غسلك الذي قمت به إلا النية واستصحابها ، والنية ركن لا يقوم الغسل إلا بها بل هي شرط في صحة جميع الأعمال .

قال نجيب : لقد اخترت الإسلام دينا لي ، فهل يجب علي أن أعيد الغسل ما دام تنقصه النية وهي ركن لا يتم الغسل إلا به ؟

قال الأب : إن هذا قد يجب على مشرك أسلم ، ولكنك يا بني لم تكن مشركا نجسا ، ولكنك كنت طفلا غير مكلف ، وان أول ما يجب عليك بالبلوغ ليس هو الغسل ، وما أمرتك به إلا ليكون هذا الطهر فاصلاً بين حياة غير مكلفة بواجبات ، وحياة أخرى عامرة بالإيمان والعمل الصالح أن شاء الله وربما أنني أريد أن أحدثك في هذه اللحظات الحاسمة في تاريخك ، عن أشياء مقدسة سوف يكون لها الأثر الأكبر في توجيه أعمالك في الحياة ، فقد أحببت أن تكون على استعداد للاستماع إليها ، وفهمها وأنت طاهر البدن والروح ..

قال نجيب : إني على كامل الاستعداد يا أبي .. فحدثني ..

قال الأب : هل فكرت يا بني قبل اليـوم في الحياة ؟ في هذا العالم الفسيح ؟ في تناسقه وجماله ؟ في استقراره ونظامه ؟

هل فكرت في الشمس والقمر ؟ في الليل والنهار ؟ في الكواكب والنجوم ، في الظلمة والنور ؟ ..

هل فكرت في البر والبحر ؟ في التراب والماء ؟ في الكواكب والنجوم ، في الظلمة والنور ؟ ..

هل فكرت في هذه المخلوقات المختلفات الأشكال والألوان ؟ في الرجل والأسد ؟ في النحلة والبعوضة ؟ في أنواع النبات في مواسم الأزهار والأثمار ؟ في فواكه الصيف وفواكه الشتاء ؟

هل فكرت في هذه المواد الكثيرة ، التي يجدها الإنسان مبثوثة(1) ، على الأرض ، فيصنع بها الإنسان أشياء كثيرة ، نافعة وجميلة .

قال نجيب : لقد فكرت في ذلك كثيراً يا أبي ولطالما وقفت في الشرفة أتأمل مغرب الشمس أو مشرقها ، ولطالما انطلقت بين الرياض أشم عبير الأزهار ، واستنشق النسيم العليل في أصائل(2) الربيع ، وأماسي (3)الصيف ، وسرحت بخيالي في عالم النجوم والأقمار أسائل نفسي عنها ..

إن الشمس تطلع كل يوم لا تتأخر ، وان القمر يجري في نظامه الشهري لا يختلف ، وأن الفصول تأتي في مواعيدها ، بحرها أو بردها أو اعتدالها لا يتأخر فصل إلى فصل ولا يستبدل طقس بطقس .

قال الأب : هل فكرت يا بني في الذي أوجد هذا النظام العجيب ، ومهد هذه الحياة الحافلة بالحركة ، وملأ هذا العالم الواسع الأرجاء بالمخلوقـات المختلفات ، وضمن فيها الحياة لأقواها وأضعفها ، فاستطاعت النملة الضعيفة والذبابة الواهنة ، أن تكفل لنفسها الحياة ، كما يعيش الأسد والفيل والجمل ، واستطاعت النبتة الصغيرة أن تحيا بجانب الدوحة الكبيرة الباسقة .

قال نجيب : لقد عرفت ذلك يا أبي فكثيراً ما سمعتك تقول أن الله هو الذي خلق الكون وما فيه من حركة وسكون .

قال الأب : لقد كنت تأخذ ذلك عني وأنت طفل ، أما الآن وقد أصبحت رجلاً مكلفاً ، فانه يجب أن تبني عقيدتك على تفكيرك ، يجب أن يكون إيمانك مبنياً على يقين ، وأن يكون هذا اليقين مبنياً على اقتناع عقلي ، وما الأسئلة التي وجهتها إليك ، والمظاهر الطبيعية التي عرضتها عليك ، إلا مفاتيح للإيمان بالخالق الأعظم ..

قال نجيب : وأي عقل يا أبي يرى هذه الحقائق ولا يؤمن بأن لها خالقا أعظم ؟ إنني ما رأيت سيارة جاثمة(1) في طريق إلا علمت أن صانعا صنعها ، وما رأيت طائرة سابحة في الفضاء إلا وعلمت أن فيها قائداً يوجه سيرها ، ويضبط طيرانها ، فكيف بهذا العالم المشحون ؟ ..

قال الأب : لقد وصلت إلى النقطة الثانية من حياتك الجديدة .

قال نجيب : وكيف ذلك يا أبي ؟

قال الأب : لقد صرت منذ دقائق رجلاً ، وها أنت الآن تصير مؤمنا .

قالت الأم التي كانت تسمع حوارهما في صمت : وبدلاً من أن تكون هذه الليلة هي عيد ميلادك رجلاً فقط صارت عيد ميلادك مؤمنا أيضاً ، فهي لك عيدان لا عيد واحد ، ولذلك فأنا أرجوك يا ولدي أن تبدأ منذ الآن تاريخ حياتك ، وأن تكتب مذكراتك فتبدأها بتسجيل دخولك في مرحلة الرجولة ثم ما بعد ذلك من أعمال وأقوال وتستمر على ذلك طوال حياتك فتسجل كل ليلة ما قمت به من أعمال سواء كانت لك أو عليك .

قال الولد وهو يرنو إلى أمه حب وإعجاب : حسنا يا أماه إنني سوف اشتري غدا مذكرة ثم أسجل منها جميع أعمالي اليومية .

قالت الأم : لقد فكرت في ذلك يا بني ، ولذلك فقد أحضرت لك مذكرة هي هديتي إليك في هذه المناسبة السعيدة ، ثم ناولته مذكرة جميلة كانت قد احتفظت بها طيلة السهرة .

فتلقاها منها نجيب في احترام ثم قام وطبع قبلة حارة على جبين أمه عبر بها عما في نفسه من حب وإعزاز لها .

وقبل أن يجلس قال له أبوه : يكفي الليلة هذا القدر من السمر فإن وراءك أعمالاً مدرسية يجب أن تنجزها قبل النوم وفي الليلة القادمة سنستأنف سمرنا إن شاء الله .

وألقى الولد المؤدب تحية المساء على أبوبه ثم انصرف .

 

 

 

الصفحة الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الاستقامة ولأصحاب المقالات - الأمانة العلمية تتطلب ذكر المصدر كاملا  عند نقل أي  معلومات من هذا الموقع