موسى بن علي الإزكوي

الإمام أبو علي موسى بن علي وآراؤه الفقهيَّة 

كتبه: سعيد بن ناصر الناعبي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله الذي أكرم العلماء بالعلم، وزيَّنَهُم بالحلم، والصَّلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

وبعد: فما أحوج الخلف إلى دراسة السلف، وما أحوج هذا الجيل إلى ربط حاضره المشرف بماضيه المعرق، ومن المعلوم أنَّ مدينة إزكي من المدن العمانية العريقة تأريخًا وعلمًا؛ فقد ظهر منها علماء من أهل العقد والحل، ونالت نصيبًا وافرًا من العلماء.
ولا أبالغ إن قلتُ: إنَّ مدينة إزكي أكثر مدن عمان علمًا، فقد تسلسل فيها العلماء من القرن الثاني الهجري وإلى آخر القرن الرابع عشر الهجري.

فمن أشهر العلماء من هذه المدينة العريقة: العالم الكبير، والجهبذ النحرير، الإمام أبو علي موسى بن علي السامي الإزكوي -رحمه الله-، من علماء عمان في آخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث الهجري، أخذ العلم عن الشيخ هاشم بن غيلان، وعن الشيخ سليمان بن عثمان، ولعلَّه أدرك والده الشيخ علي بن عزرة.

والشيخ موسى بن علي من علماء الإسلام، ومن ذوي الاجتهاد المطلق، ومن أصحاب النظر الثاقب، والفهم والإدراك الضارب في أعماق الأحكام، فلذلك كان العلماء في عصره لا يصدرون عن رأيه، والشيخ  موسى بن علي رحمه  الله ينتسب إلى  أسرة علمية مشهورة بالعلم والورع ، فأبوه  الشيخ  علي بن عزرة من فقهاء عمان  في آخر القرن الثاني  الهجري  ومن  أشهرهم في عهد  الإمام   الوارث  بن كعب رحمه  الله الذي بويع له بالإمامة سنة 179 هجرية ، وأخوه  الشيخ  محمد  بن علي ، والشيخ  الأزهر بن علي ، وكلهم  من أهل الاجتهاد ولهم  مسائل وآراء  اجتهادية  في  الأثر، وجده  لأمه على  المشهور  الإمام  الكبير أبو جابر  موسى بن أبي جابر  الإزكوي  أحد  حملة  العلم من البصرة إلى عمان ، ولذلك يقول الشيخ العلامة محمد بن سالم الرقيشي  رحمه الله من علماء إزكي في القرن  الرابع عشر  الهجري

 وعلي بن  عزرة بحر علم        كم غريق ببحره الزخار

ثم موسى ابنه  علم              سبق الناس في مجاري  الفخار

ثم لا ننسى  أزهر بن علي      فهو   حبر وماله من مجاري

وقد عاصر من الأئمة الإمام عبد الملك بن حميد -رحمه الله الذي بويع له  بالإمامة سنة  207  هجرية  ،وعندما ضعف بصر الإمام عبد الملك وثقل سمعه؛ أراد طائفة من العلماء أن يعزلوه، فشاوروا الشيخ أبا علي موسى بن علي، فلم يرَ مبررًا لعزله، فكان الشيخ موسى بن علي -رحمه الله- معينًا للإمام عبد الملك بن حميد في إدارة الدولة. وعاصر الإمام المهنا بن جيفر  الذي  بويع له  بالإمامة سنة 227 هجرية  ، وهو من عقد له الإمامة. ولعله أدرك الإمام غسان بن عبدالله -رحمهم الله-.

والشيخ موسى بن علي -رحمه الله- له آراء واجتهادات مبثوثة في كتب الفقه، وقلَّما يخلو كتاب فقهي عن أصحابنا -رحمهم الله- إلَّا والشيخ أبو علي موسى بن علي له قولٌ فيه، وقد وجدت له أقوالًا تفرَّد بها وخالف فيها القول المشهور في المذهب الإباضي، وهذا شأن كل عالم مجتهد أن ينظر في الدليل؛ ليستخرج منه الحكم الشرعي، فالمجتهد لا يجوز له التقليد، يقول الشيخ السالمي-رحمه الله-:
إنَّنِي أَقْفُو الدَّليلَ فَاعْلَمَا                 لَمْ أَعْتَمِدْ على مَقَالِ العُلَمَا

فَالْعُلَمَاءُ اسْتَخْرَجُوا ما اسْتَخْرَجُوا       مِنَ الدَّليلِ وَعَلَيْهِ عَرَّجُوا

وتتميز آراء الشيخ موسى بن علي بالتسهيل والتيسير، وقد روي عن الشيخ أبي سعيد -رحمه الله- مقولة مشهورة: «ليس الفقيه من يحمل الناس على ورعه وإنما من يفتي الناس بما يسعهم في دينهم».

1⃣ من آرائه الفقهية: قوله في العجين إذا عجن بماء نجس فخبز في التنور؛ جاز أكله لأنَّ النار قد ذهبت بذلك الماء، وقيل: يلقى أو يدفن، وقيل يجعل فيه الماء فيخضخض ثم يراق (انظر: معارج الآمال ٢/٢٢٤)، وكأنَّ شيخنا الفقيه يحيى بن أحمد الكندي يستحبُّ هذا القول.

وسبب الخلاف: هل النار من المطهرات للنجاسة، أم أنَّ إزالة النجاسة مقتصرة على الماء دون غيره؟ وبما أنَّ الشيخ موسى بن علي يرى طهارة العجين المتنجس إذا خبز في التنور؛ فمعناه يرى أنَّ النار مطهرة للنجاسة، وقد جاء في السنَّة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما يدلُّ على أنَّ تطهير النجاسة لا يقتصر على الماء فحسب، بل بالتراب وبالدباغ، ولذلك شرع الله تعالى التيمم بالتراب، فلو لم يكن التراب مطهرًا للنجاسات لَمَا شرعه الله عند عدم وجود الماء، وعند عدم القدرة عليه، وكذلك الاستجمار بالحجارة لإزالة النجاسة، وبكل جامد مطهر، وكان الاستجمار مفروضًا قبل مشروعية الاستنجاء بالماء.

2⃣ ومن آرائه: أنَّ من مسَّ ما في الكرش؛ انتقض وضوؤه، فهو يرى -رحمه الله- أنَّ الماء المستقر في الكرش نجس، بينما آخرون لا يرون نجاسة ما في الكرش، وصحَّحه الإمام السالمي -رحمه الله-(انظر: معارج الآمال ١/ ٤٤٧).

وسبب الخلاف: متى يكون الماء بولًا؟ هل بوقت استقراره في الكرش، أم إذا انفصل عن الكرش وخرج إلى مستقره؟ فمن قال بوجود الماء في الكرش صارً بولًا؛ قال بنجاسة ما في الكرش، ومن قال بأنَّه بالانفصال عن الكرش؛ لا يرى نجاسة ما في الكرش.

3⃣ ومن آرائه في الصَّلاة: أنَّه يقول أنَّ صلاة الوتر سُنَّة، بينما يرى تلميذه الشيخ محمد بن محبوب أنَّها فريضةٌ كسائر الفرائض، وذهب جمهور علماء المذهب إلى أنَّ صلاة الوتر سُنَّة مؤكدة، وعلى هذا القول جار العمل والفتوى.

استدلَّ الشيخ موسى بن علي -رحمه الله- بحديث الرجل الذي جاء النبيَّ  -عليه الصلاة والسلام- يسأله عن فرائض الإسلام، والحديث جاء من طريق طلحة بن عبيد الله، فقال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلاَ يُفْقَهُ قَوْلُهُ، حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ»، قَالَ: هَلْ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ».

ووجه الاستدلال: أنَّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- بيَّن في الحديث أنَّ الصلوات خمس في اليوم واللية، فلو كانت الوتر من الفرائض لنَصَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- على ست صلوات.

واستدلَّ الشيخ محمد بن محبوب برواية الربيع بن حبيب -رحمه الله- عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد أنَّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- قال لأصحابه: «إِنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلاَةً سَادِسَةً خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْوِتْرُ».

واستدلَّ مَن قال بأنَّ الوتر سنة مؤكدة بأنَّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- لم يترك الوتر لا في سفرٍ ولا في حضرٍ، واستدلُّوا أيضًا أنَّ فعل الوتر يكون بعد صلاة العشاء الآخرة، فدلَّ على أنَّه من توابع الصلوات وليس بفرضٍ.

4⃣ رأيه في إمامة الأعمى: يذهب الإمام موسى بن علي إلى إجازة إمامة الأعمى، نصَّ على ذلك الشيخ ابن بركة في كتابه (الجامع) بقوله: «اختلف محمد بن محبوب وموسى بن علي في محجوب البصر يَؤُمُّ في الفريضة، فأجاز موسى بن علي ذلك»، وكان الشيخ موسى بن علي يصلي خلف محمد بن سليمان وهو أعمى، وقد أجاز الصلاة خلف الأعمى ابن عباس -رضي الله عنهما-، ونسبه ابن المنذر إلى عوام أهل العلم(معارج الآمال ٣/ ٣٤٥)، «ولم يجز محمد بن محبوب»(الجامع لابن بركة (١/ ٣٢٨).

استدلَّ الشيخ أبو علي موسى بن علي على قوله؛ أنَّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- استخلف عبدالله بن أم مكتوم على المدينة وكان أعمًى، كما أنَّ الأعمى داخلٌ في عموم قوله -عليه الصلاة والسلام-: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَأُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ»، ولا مُخْرِجَ للأعمى من الحديث، والله أعلم.

5⃣ ومن آرائه: أنَّه لا يرى الصلاة خلف الفاجر، فقد جاء في الأثر: «ومن كتابٍ فيه عن موسى بن علي -رحمه الله-: وعن إمامٍ يصلي بقوم اطَّلع عليه رجلٌ ممَّن يصلي خلفه أنَّ في يده مالًا حرامًا يأكله، أيحلُّ له أن يصلي خلفه؟ فأجاب بقوله: إنَّ هذا الرجل ينصح له، فإن قَبِلَ وترك ذلك؛ فليصل خلفه، وإن أبى وتولَّى فلا يُصلَّى خلفه»(الجامع لابن جعفر ٢/ ٣٠٦)، وهذا القول قال به المحقق الخليلي -رحمه الله- من علماء عمان في القرن الثالث عشر.

بينما يرى أكثر علمائنا جواز الصلاة خلف الفاجر والظلمة؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عند الربيع بن حبيب -رحمه الله- أنَّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- قال: «الصَّلاَةُ جَائِزَةٌ خَلْفَ كُلِّ بَارٍّ وَفَاجِرٍ، مَا لَمْ يُدْخِلْ فِيهَا مَا يُفْسِدُهَا»، وقد صلَّى طائفةٌ من الصحابة والتابعين خلف الظلمة من بني أُمَيَّة وعُمَّالهم، والله أعلم.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

9 + 6 =