عمروس بن فتح المساكني
إمام جليل من أئمة الدين ، وعلم عظيم من أعلام الإسلام ، نشأ وترعرع في مكان بعيد ناء ، رضع العلم منذ نعومة أظفاره فبز أقرانه حتى أصبح أعلم أهل زمانه بشهادة علماء عصره ، بلغت شهرته الآفاق ، وترك العديد من المؤلفات ، كان فارسا في ميدان العلم لا يشق له غبار وكذا كان في ميدان الجهاد ، جاهد في سبيل ربه حتى نال ما يتمناه كل مسلم ، كان مناظرا بارعا نافح عن عقيدة الإسلام ، وكان قاضيا عادلا حكم بشرع الله ، كان مؤمنا بالله حق الإيمان واثقا به حق الثقة لا يخاف في جنب الله لومة لائم …
فمن هو هذا الإمام الفارس ؟ وأين نشأ ؟ وكيف كانت سيرته ؟
إنه الشيخ العالم العلامة إمام عصره وأعلم أهل زمانه عمروس بن فتح المساكني النفوسي ، ويكنى بأبي حفص ، ولقب بالمساكني لأنه من أهل ” مساكن ” الواقعة بجبل نفوسة ، ولقب بالنفوسي لأن نسبه ينتمي إلى قبيلة ” نفوسة ” البربرية ، التي نسب الجبل الغربي لطرابلس إليها في ليبيا .
ذكر بعض الباحثين أن الشيخ عمروس ولد في قافلة كانت متوجهة إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج ، مما اضطر أمه إلى العودة به وعدم مواصلة الطريق ، وقد ولد الشيخ عمروس في سنة 190هـ تقريبا .
نشأ الشيخ عمروس في قرية ” قطرس ” من جبل نفوسة ، والظاهر أن الشيخ عمروس نشأ يتيما ، وذلك أن أمه لما حضرتها الوفاة ، كتبت وصيتها وأشهدت عليها ، ولما سئلت عمن وكلته لإنفاذها ، أشارت إلى الشيخ عمروس وهو في المهد لإنفاذها ، فلو كان أبوه حيا لأوكلت تنفيذ الوصية إليه بدلا من طفل لا يزال في المهد ، ولكن في المقابل قد يكون والده حيا في تلك الفترة ، حيث أنه يصح أن يستخلف الطفل لإنفاذ الوصية مع وجود أبيه أو خليفته ، جاء في شرح النيل : ” ولا ينفذها – أي الوصية – أبو الطفل أو خليفته إن استخلف … ” .
ولكن الظاهر أن أبا الشيخ عمروس توفي قبل أن يصل الشيخ عمروس إلى سن الإدراك ، وذلك أن الشيخ عمروس لما بلغ مبلغ الرجال – ولنقل ثمانية عشر سنة – أراد أن ينفذ وصية أمه ، ويؤدي عنها الحج ، فلم يجد أحدا يعلم بصلاحها ويشهد بذلك ، إلا امرأة واحدة شهدت بصلاحها ، فأدى الحج عنها بشهادة تلك المرأة .
فلو لم يكن أبو الشيخ عمروس قد توفي والشيخ عمروس لا يزال طفلا لم يدرك ، لسأل أباه عن أمه وصفاتها وصلاحها من عدمه ، ولأخبره أبوه عنها .
والظاهر أن الشيخ عمروس بدأ بتلقي العلم في قريته ” قطرس ” التي نشأ وترعرع فيها ، فلعله التحق بشيء من الكتاتيب الموجودة في قريته ، فحفظ القرآن الكريم ، وتعلم الآداب ، وبعض قواعد النحو والأحكام الفقهية المبدئية ، وقد أشار الشيخ علي يحيى معمر- ولو من بعيد – إلى ذلك حين قال : ” نشأ في ” قطرس ” – يقصد الشيخ عمروس – … وفيها درس ، وبلغ هذه المرتبة السامقة من العلم ” إهـ .
وللأسف الشديد فإن المصادر تبخل في ذكر أسماء شيوخه ، الذين تلقى عنهم العلم في هذه المرحلة الأولى من تعليمه فلم أجد حسب المصادر التي توفرت بين يدي إشارة إلى ذلك ، وهذه المشكلة نفسها عانى منها الباحث أحمد كروم ، فقال : ” هذا ما كتبته المصادر عن تعلمه بصفة إجمالية دون التعرض لأي تفصيل يشير إلى مشائخه ورفقائه في الدراسة أو العلوم التي درسها أكثر من الأخرى … ” إهـ .
وأما مراحل تعليمه التي تلت المرحلة الأولى أو الابتدائية ، فقد ذكرت بعض المصادر أن الشيخ عمروس هاجر إلى المغرب لطلب العلم ، وانقطع لمدة عشرين سنة في المغرب طلبا للعلم ، وقد ذكر الباحث أحمد كروم أن المقصود بالمغرب هو ” تيهرت ” العاصمة الرستمية ، معللا استنتاجه هذا بأن الاستعمال السائد آنذاك عند الإباضية لهذه الكلمة هو ” تيهرت ” عاصمة الدولة الرستمية ، إذ كانت كعبة الطلاب والعلماء والمتكلمين حينا من الدهر ، حتى غدت تعرف ” ببغداد المغرب ” ، كما أنها جاءت في غرب جبل نفوسة ؛ ولكن في المقابل فإن الشيخ فرحات الجعبيري ذهب إلى أن المقصود بالمغرب هو ” بلاد الجريد ” حاليا ؛ ولا يستبعد أن يكون المقصود بالمغرب هو ” تيهرت ” ، حيث أن تيهرت – كما ذكر الباحث أحمد كروم – كانت مقصد طلاب العلم ومريديه ، وذلك لوجود الأئمة وكبار العلماء فيها .
فالظاهر أنه أخذ العلم في تيهرت على يد الإمام عبد الوهاب بن عبد الرحمن والإمام أفلح بن عبد الوهاب وعلى يد بعض علماء تيهرت كمزور بن عمران الهواري – وزير الإمام عبد الوهاب – ، ومحكم الهواري – قاضي الإمام أفلح – ، وأبي الربيع سليمان الهواري ، الذي يعد من كبار علماء ” تيهرت ” ، وأبي عبيدة الأعرج التيهرتي ، الذي كان عالما بالفقه والكلام والوثائق والنحو واللغة … وغيرهم من العلماء .
أما أهم العلوم التي من الممكن أن يكون درسها في أثناء وجوده في ” تيهرت ” ، علم التفسير فقد يكون تلقاه على يد الإمام عبد الوهاب والإمام أفلح ، والعلامة محكم الهواري ، وعلم الحديث لعله أخذه عن الإمام أفلح – الذي كان مهتما بعلم الحديث – ، وأبي عبيدة الأعرج الذي أخذ عنه ابن الصغير كتاب ” إصلاح الغلط في غريب الحديث ” لابن قتيبة ، واللغة والفقه والعقيدة وعلم الكلام ، عن الإمام عبد الوهاب ، والإمام أفلح ، وقد يكون أخذها كذلك عن العلماء الذين ذكرتهم قبل قليل ، أو عن غيرهم والله أعلم .
وإذا كان درس العشرين سنة في ” وارجلان ” فإنه من المحتمل أن يكون أخذ العلم فيها عن بعض علماء وارجلان ، ولقد تتبعت تراجم علماء وارجلان جميعا في معجم أعلام الإباضية ، فوجدت أقرب الشخصيات إلى عصر الشيخ عمروس شخصيتان ، اشتهرت بالعلم في وارجلان في القرن الثالث الهجري ، وهو القرن الذي عاش فيه الشيخ عمروس رحمه الله ، وهاتان الشخصيتان هما : أبو سهل الفارسي النفوسي ، وأبو يوسف يعقوب بن سليوس الطرفي السدراتي .
إذا بعد عشرين سنة – من الغربة والترحال طلبا للعلم – أنهى الشيخ عمروس دراسته في ” تيهرت ” أو ” وارجلان ” ، فعاد إلى جبل نفوسة عالما متضلعا في مختلف فنون العلم ، ليصبح أعلم أهل زمانه كم وصفه أهل العلم .
ولم يكتف بما تلقاه من العلم في المغرب ، بل استمر في طلب العلم في جبل نفوسة ، ولا يستبعد أن يكون من أوائل طلاب العلم الذين التحقوا بحلق العلم التي كان يقيمها الإمام عبد الوهاب في جبل نفوسة حين زاره ، وروي عنه كذلك أنه كان يتردد برفقة مهدي الويغوي ، على موضع يسمى ” تنين أزدرشل ” يجتمع فيه جماعة لطلب العلم ، والمفتي فيهم أبو نصر التمصمصي .
ومن مشايخ الشيخ عمروس الذين ثبت عنه تلقيه العلم عنهم ، والتقائه بهم عالمان جليلان من علماء أهل الحق والاستقامة ، وهما العلامة أبو غانم بشر بن غانم الخرساني ، صاحب المدونة المشهورة ، والعلامة أبو عبد الله محمد بن محبوب بن الرحيل القرشي .
فالعلامة أبو غانم الخرساني التقى به الشيخ عمروس عند خروج الأول من المشرق إلى المغرب للقاء الإمام عبد الوهاب ، حاملا معه مدونته المشهورة ليهديها للإمام عبد الوهاب ، فمر في طريقه على الشيخ عمروس بجبل نفوسه ، وترك عنده نسخة من المدونة ، وذهب بالأخرى إلى تيهرت ، فقام الشيخ عمروس بمساعدة أخته العالمة بنسخ المدونة ، فكان له الفضل في المحافظة على هذا السفر الثمين ، حيث أن النسخة الثانية احترقت مع ما احترق من المخطوطات العظيمة عندما قام الفاطميون بحرق مكتبة المعصومة عند هجومهم على تيهرت .
وأما الشيخ العلامة محمد بن محبوب فإن الشيخ عمروس التقى به عند ذهابه إلى المشرق لأداء مناسك الحج ، فسأله عن الكثير من المسائل ، حتى قال ابن محبوب : ” هذا من مكنون العلم لا يعلن به في قوم جهال ” ، والقصة في ذلك مشهورة .
والظاهر أن الشيخ عمروس اشتغل بالتدريس ونشر العلم ويستشف ذلك من بعض النصوص مع غموضها وعدم تصريحها بذلك وليس هنا مقام عرضها والله أعلم .
وقد اشتغل الشيخ عمروس بالتأليف ، فذكرت المصادر وجود بعض المؤلفات التي تنسب إلى الشيخ عمروس ، فمن مؤلفاته : كتاب ” العمروسي ” ، وكتاب ” أصول الدينونة الصافية ” ، وكتاب ” الحكم والمعارف ” ، وكتاب ” أعلام الملة ” ، وكتاب ” عمروس بن فتح ” ، وكتابان في الأصول والفقه ، وكتاب في ” الرد على الناكثة وأحمد بن الحسين ” ، وقد أراد الشيخ عمروس – رحمه الله – أن يؤلف كتابا يقسمه على ثلاثة أوجه : التنزيل والسنة والرأي ، مضمنا كل قسم ما يتعلق به من مسائل ، إلا أن المنية داهمته قبل إتمام مشروعه .
هذه هي المؤلفات التي تركها الشيخ عمروس ، حسب ما ذكرته المصادر ، وقد ذهب د/ النامي إلى الجزم بأنه لم يبق من تراث الشيخ عمروس غير رسالتين ، هما ” الدينونة الصافية ” و ” الرد على الناكثة وأحمد بن الحسين ” ، وذهب الشيخ فرحات الجعبيري إلى الجزم بوجود الدينونة الصافية فقط ، وأنه وجد مخطوطته في دار التلاميذ بمدينة العطف بوادي ميزاب ، وذكر أن كتاب ” الدينونة الصافية ” هو القسم الأول من كتاب في الفقه حسب المخطوطة التي وجدها في دار التلاميذ ، والحقيقة أن الباحث أحمد كروم لم يشر إلى ما ذكره الشيخ الجعبيري عند تحقيقه للدينونة ، ولكن أصحاب معجم أعلام الإباضية ذكروا وجود كتاب ” الرد على الناكثة وأحمد بن الحسين ” ، وأنه لا يزال مخطوطا .
هذا وللشيخ عمروس فتاوى في مختلف المسائل مبثوثة في بطون الكتب والمؤلفات كالطبقات وغيره ، وقد كان رحمه الله متمكنا من علم الكلام ومناظرا فحلا تصدى لقمع أصحاب العقائد الفاسدة فأفحم حججهم ببراهينه الساطعة وقد ذكرت المصادر له مناظرات مختلفة كمناظرته لنفاث وغيره .
وقد تولى الشيخ عمروس القضاء على جبل نفوسة في عهد إمامين من أئمة الدولة الرستمية ، وهما الإمام أبو اليقظان محمد بن أفلح ، والإمام أبو حاتم يوسف بن محمد بن أفلح ، حيث كلفه أبو منصور – الوالي على جبل نفوسة – بتولي منصب القضاء ، ومما يؤثر عنه أنه قال لأبي منصور إلياس : ” إن لم تأذن لي بقتل ثلاثة فخذ خاتمك ، قتل مانع الحق ، والطاعن في دين الله ، والدال على عورات المسلمين ” .
في سنة 283هـ تعرض الدولة الرستمية لهجوم من قبل إبراهيم بن الأغلب الذي كان متوجها إلى تيهرت للقضاء عليها ، فعندما علم أهل نفوسة بذلك انبروا للدفاع عن دولتهم وحوزتها ، فوقعت معركة عنيفة بين الطرفين في مكان يسمى ” مانو ” ، وقد شارك الشيخ عمروس في هذه المعركة وقد بلغ من الكبر عتيا ، حيث أن عمره كان في حدود الثالثة والتسعين ، على فرض أنه ولد في سنة 190هـ .
كان الشيخ عمروس في آخر المعركة يحمي الجيش ، ويذود عنهم ، وكان على فرس سابق ، فلم يقدر عليه الأغالبة ، وأعياهم أمره ، وعندما عجز عنه فرسان الأغالبة ، لجئوا إلى الحيلة ، فنصبوا حبالا في طريقه ، فعثر بها فرسه ، فأخذوه أسيرا ، ومضوا به إلى الظالم إبراهيم بن الأغلب ، مسرورين جذلين بما حققوه من أسر الشيخ عمروس ، ولكنهم أين سيفرون من عذاب الله وشديد انتقامه ، وعندما وصلوا به إلى ابن الأغلب ، أراد عدو الله أن يشمت بالمجاهد المؤمن ، فقال له : ” سلني العفو فأعف عنك ” ، فأجاب الشيخ عمروس – رحمه الله – إجابة المؤمن بالله حق الإيمان ، الواثق به وبوعده حق الثقة : ” إن الأعمار بيد الله ، وتلك كلمة لن تسمعها مني أبدا ، ولكن أسألك في سراويلي هذه ، لا تكشفوني منه ” .
فحاول أن يفتنه في دينه وعقيدته ، فقال له : ” إذن فارجع عما أنت عليه لنتركك ” ، عند ذلك انتفض الشيخ عمروس انتفاضة الأسد الهصور في أسره ، فقال – بملء فيه – : ” تلك كلمة لا أقولها حتى ألحق بالله ” عند ذلك عندما رأى ابن الأغلب هذه القوة من الشيخ عمروس ، بدأ يسلك معه مسلك العنف والقمع – الذي يجيده أمثاله من الظلمة والجائرين – ، فأمر بقرضه بمقاريض من حديد ، فبدءوا يقرضون يديه فلما بلغوا عضديه ، بعد أن ظلوا طويلا يقطعون يديه ، ودماءه تسيل ، فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها ، نعم فاضت روح البطل ، فاضت روح المجاهد ، لتفوز بوعد مولاها ] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ! فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [ .
وهكذا طويت صفحة هذا الإمام الجليل ، بعد أن سطرها بعظائم الإنجازات ، فقضى سنوات عمره الطويلة ، بين طلب العلم وحلقه ، وبين الأوراق قراءة وتأليفا وتصحيحا ، وفي مجالس المناظرة ، رادا على الفرق الضالة ، وعلى أرض المعارك رافعا راية الإسلام ذابا عن حياض العقيدة ، حتى كلل جهده بالظفر بما يطمع به كل مؤمن ، وهو الفوز بالشهادة ، فكانت حسن خاتمة له رحمه الله تعالى ، وأسكنه أعالي فراديس الجنان .
( مصدر هذا المقال هو مقتطفات وخلاصة من بحث قدمته كمشروع تخرج من معهد العلوم الشرعية بسلطنة عمان ، تحت عنوان : الشيخ عمروس ومنهجه الفقهي والعقائدي من خلال كتاب أصول الدينونة الصافية ) .
مهنا بن راشد بن حمد السعدي